سورة النحل - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


لما بين تعالى ما حرم، بالغ في تأكيد ذلك بالنهي عن الزيادة فيما حرم كالبحيرة، والسائبة، وفيما أحل كالميتة والدم، وذكر تعالى تحريم هؤلاء الأربع في سورة الأنعام. وهذه السورة وهما مكيتان بأداة الحصر، ثم كذلك في سورة البقرة والمائدة بقوله: {أحلت لكم} الآية وأجمعوا على أن المراد: {مما يتلى عليكم} هو قوله: {حرمت عليكم} الآية وهما مدنيتان فكان هذا التحريم لهذه الأربع مشرعاً ثانياً في أول مكة وآخرها، وأول المدينة وآخرها. فنهى تعالى أن يحرموا ويحلوا من عند أنفسهم، ويفترون بذلك على الله حيث ينسبون ذلك إليه. وقرأ الجمهور الكذب بفتح الكاف والباء وكسر الذال، وجوزوا في ما في هذه القراءة أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوف تقديره: للذي تصفه ألسنتكم. وانتصب الكذب على أنه معمول لتقولوا أي: ولا تقولوا الكذب للذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة، من غير استناد ذلك الوصف إلى الوحي. وهذا حلال وهذا حرام بدل من الكذب، أو على إضمار فعل أي: فتقولوا هذا حلال وهذا حرام. وأجاز الحوفي وأبو البقاء أن يكون انتصاب الكذب على أنه بدل من الضمير المحذوف العائد على ما، كما تقول: جاءني الذي ضربت أخاك، أي ضربته أخاك. وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوباً بإضمار أعني. وقال الكسائي والزجاج: ما مصدرية، وانتصب الكذب على المفعول به أي: لوصف ألسنتكم الكذب. ومعمول: ولا تقولوا، الجملة من قوله: هذا حلال وهذا حرام، والمعنى: ولا تحللوا ولا تحرموا لأجل قول تنطق به ألسنتكم كذباً، لا بحجة وبينة. وهذا معنى بديع، جعل قولهم: كأنه عين الكذب ومحضه، فإذا نطقت به ألسنتهم فقد جلت الكذب بحليته وصورته بصورته كقولهم: وجهه يصف الجمال، وعينها تصف السحر. وقرأ الحسن، وابن يعمر، وطلحة، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وابن عبيد، ونعيم بن ميسرة: بكسر الباء، وخرج على أن يكون بدلاً من ما، والمعنى الذي: تصفه ألسنتكم الكذب. وأجاز الزمخشري وغيره أن يكون الكذب بالجر صفة لما المصدرية. قال الزمخشري: كأنه قيل: لوصفها الكذب بمعنى الكاذب كقوله تعالى: {بدم كذب} والمراد بالوصف وصفها البهائم بالحل والحرمة انتهى. وهذا عندي لا يجوز، وذلك أنهم نصوا على أنّ أنْ المصدرية لا ينعت المصدر المنسبك منها ومن الفعل، ولا يوجد من كلامهم: يعجبني أنْ قمت السريع، يريد قيامك السريع، ولا عجبت من أنْ تخرج السريع أي: من خروجك السريع. وحكم باقي الحروف المصدرية حكم أنّ فلا يوجد من كلامهم وصف المصدر المنسبك من أنْ ولا، من ما ولا، من كي، بخلاف صريح المصدر فإنه يجوز أن ينعت، وليس لكل مقدر حكم المنطوق به وإنما يتبع في ذلك ما تكلمت به العرب.
وقرأ معاذ، وابن أبي عبلة، وبعض أهل الشام: الكذب بضم الثلاثة صفة للألسنة، جمع كذوب. قال صاحب اللوامح: أو جمع كاذب أو كذاب انتهى. فيكون كشارف وشرف، أو مثل كتاب وكتب، ونسب هذه القراءة صاحب اللوامح لمسلمة بن محارب. وقال ابن عطية: وقرأ مسلمة بن محارب الكذب بفتح الياء على أنه جمع كذاب، ككتب في جمع كتاب. وقال صاحب اللوامح: وجاء عن يعقوب الكذب بضمتين والنصب، فأما الضمتان فلأنه جمع كذاب وهو مصدر، ومثله كتاب وكتب. وقال الزمخشري: بالنصب على الشتم، أو بمعنى الكلم الكواذب، أو هو جمع الكذاب من قولك: كذب كذاباً ذكره ابن جني انتهى. والخطاب على قول الجمهور بقوله: ولا تقولوا، للكفار في شأن ما أحلوا وما حرموا من أمور الجاهلية، وعلى ذلك الزمخشري وابن عطية. وقال العسكري: الخطاب للمكلفين كلهم أي: لا تسموا ما لم يأتكم حظره ولا إباحته عن الله ورسوله حلالاً ولا حراماً، فتكونوا كاذبين على الله في إخباركم بأنه حلله وحرمه انتهى. وهذا هو الظاهر، لأنه خطاب معطوف على خطاب وهو: فكلوا إنما حرم عليكم، فهو شامل لجميع المكلفين. واللام في لتفتروا لام التعليل الذي لا يتضمن معنى الغرض، قاله الزمخشري، وهي التي تسمى لام العاقبة ولام الصيرورة. قيل: ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم، والظاهر أنها لام التعليل وأنهم قصدوا الافتراء كما قالوا: {وجدنا عليها آباءنا} والله أمرنا بها، ولا يكون ذلك على سبيل التوكيد لما تقدم لتضمنه الكذب، لأنّ هذا التعليل فيه التنبيه على من افتروه عليه، وهو الله تعالى. وقال الواحدي: لتفتروا على الله الكذب يدل من قوله: لما تصف ألسنتكم الكذب، لأنّ وصفهم الكذب هو افتراء على الله، ففسر وصفهم بالافتراء على الله انتهى. وهو على تقدير ما مصدرية، وأما إذا كانت بمعنى الذي فاللام في لما ليست للتعليل، فيبدل منها ما يقتضي التعليل، بل اللام متعلقة بلا تقولوا على حد تعلقها في قولك: لا تقولوا، لما أحل الله هذا حرام أي: لا تسموا الحلال حراماً، وكما تقول لزيد عمرو أي لا تطلق على زيد هذا الاسم. والظاهر أنهم افتروا على الله حقيقة، وهو ظاهر الافتراء الوارد في آي القرآن. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد أنه كان شرعهم لاتباعهم سنناً لا يرضاها الله افتراء عليه، لأنّ من شرع أمراً فكأنه قال لتابعه: هذا هو الحق، وهذا مراد الله. ثم أخبر تعالى عن الذين يفترون على الله الكذب بانتفاء الفلاح. والفلاح: الظفر بما يؤمل، فتارة يكون في البقاء كما قال الشاعر:
والمسى والصبح لا فلاح معه *** وتارة في نجح المساعي
كما قال عبيد بن الأبرص:
أفلح بما شئت فقد يب *** لغ بالضعف وقد يخدع الأريب
وارتفاع متاع على أنه خبر مبتدأ محذوف، فقدر الزمخشري منفعتهم فيما هم عليه من أفعال الجاهلية منفعة قليلة وعقابها عظيم.
وقال ابن عطية: عيشهم في الدنيا. وقال العسكري: يجوز أن يكون المتاع هنا ما حللوه لأنفسهم مما حرمه الله تعالى. وقال أبو البقاء: بقاؤهم متاع قليل. وقال الحوفي: متاع قليل ابتداء وخبر انتهى. ولا يصح إلا بتقدير الإضافة أي: متاعهم قليل. ولما بيّن تعالى ما يحل وما يحرم لأهل الإسلام، أتبعه بما كان خص به اليهود محالاً على ما تقدم ذكره في سورة الأنعام، وهذا يدل على أنّ سورة الأنعام نزلت قبل هذه السورة، إذ لا تصح الحوالة إلا بذلك. ويتعلق من قبل بقصصنا، وهو الظاهر. وقيل: بحرمنا، والمحذوف الذي في من قبل تقديره من قبل تحريمنا على أهل ملتك. والسوء هنا قال ابن عباس: الشرك قبل المعرفة بالله انتهى. ما يسوء صاحبه من كفر ومعصية غيره. والكلام في للذين عملوا وما يتعلق به تقدم نظيره في قوله: {ثم إن ربك للذين هاجروا} فأغنى عن إعادته. وقال قوم: بجهالة تعمد. وقال ابن عطية: ليست هنا ضد العلم، بل تعدى الطور وركوب الرأس منه: أو أجهل أو يُجهل عليّ. وقول الشاعر:
ألا لا يجهلنَّ أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا
والتي هي ضد العلم، تصحب هذه كثيراً، ولكن يخرج منها المتعمد وهو الأكثر. وقلّ ما يوجد في العصاة من لم يتقدم له علم بخطر المعصية التي يواقع انتهى. ملخصاً. وقال الزمخشري: بجهالة في موضع الحال أي: عملوا السوء جاهلين غير عارفين بالله وبعقابه، أو غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم. وقال سفيان: جهالته أن يلتذ بهواه، ولا يبالي بمعصية مولاه. وقال الضحاك: باغترار الحال عن المآل. وقال العسكري: ليس المعنى أنه يغفر لمن يعمل السوء بجهالة، ولا يغفر لمن عمله بغير جهالة، بل المراد أن جميع من تاب فهذا سبيله، وإنما خص من يعمل السوء بجهالة، لأنّ أكثر من يأتي الذنوب يأتيها بقلة فكر في عاقبة، أو عند غلبة شهوة، أو في جهالة شباب، فذكر الأكثر على عادة العرب في مثل ذلك. والإشارة بذلك إلى عمل السوء، وأصلحوا: استمروا على الإقلاع عن تلك المعصية. وقيل: أصلحوا آمنوا وأطاعوا، والضمير في من بعدها عائد على المصادر المفهومة من الأفعال السابقة أي: من بعد عمل السوء والتوبة والإصلاح. وقيل: يعود على الجهالة. وقيل: على السوء على معنى المعصية.


لما أبطل تعالى مذاهب المشركين في هذه السورة من إثبات الشركاء لله، والطعن في نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحليل ما حرّم، وتحريم ما أحل، وكانوا مفتخرين بجدهم إبراهيم عليه السلام مقرين بحسن طريقته ووجوب الاقتداء به، ذكره في آخر السورة وأوضح منهاجه، وما كان عليه من توحيد الله تعالى ورفض الأصنام، ليكون ذلك حاملاً لهم على الاقتداء به. وأيضاً فلما جرى ذكر اليهود بيَّن طريقة إبراهيم ليظهر الفرق بين حاله وحالهم، وحال قريش. وقال مجاهد: سمي أمّة لانفراده بالإيمان في وقته مدّة ما. وفي البخاري أنه قال لسارة: ليس على الأرض اليوم مؤمن غيري وغيرك. والأمة لفظ مشترك بين معان منها: الجمع الكثير من الناس، ثم يشبه به الرجل الصائم، أو الملك، أو المنفرد بطريقة وحده عن الناس فسمي أمة، وقاله ابن مسعود والفراء وابن قتيبة. وقال ابن عباس: كان عنده من الخير ما كان عنده أمة، ومن هنا أخذ الحسن بن هانئ قوله:
وليس على الله بمستنكر *** أن يجمع العالم في واحد
وعن ابن مسعود: إنه معلم الخير، وأطلق هو وعمر ذلك على معاذ فقال: كان أمة قانتاً. وقال ابن الأنباري: هذا مثل قول العرب: فلان رحمة، وعلامة، ونسابة، يقصدون بالتأنيث التناهي في المعنى الموصوف به. وقيل: الأمة الإمام الذي يقتدي به من أم يؤم، والمفعول قد يبنى للكثرة على فعلة وتقدم تفسير القانت، والحنيف: شاكراً لأنعمة. روي أنه كان لا يتغدى إلا مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفاً فأخر غداه، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام، فخيلوا أنَّ بهم جذاماً فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم، شكر الله على أنه عافاني وابتلاكم. ورتيناه في الدنيا حسنة، قال قتادة: حببه الله تعالى إلى كل الخلق، فكل أهل الأديان يتولونه اليهود والنصارى والمسلمون، وخصوصاً كفار قريش، فإنّ فخرهم إنما هو به، وذلك بإجابة دعوته. {واجعل لي لسان صدق في الآخرين} وقيل: الحسنة قول المصلي منا: كما صليت على إبراهيم. وقال ابن عباس: الذكر الحسن. وقال الحسن: النبوة. وقال مجاهد: لسان صدق. وقال قتادة: القبول، وعنه تنويه الله بذكره. وقيل: الأولاد الأبرار على الكبر. وقيل: المال يصرفه في الخير والبر. {وإنه لمن الصالحين}، تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة، ولما وصف إبراهيم عليه السلام بتلك الأوصاف الشريفة أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتبع ملته، وهذا الأمر من جملة الحسنة التي آتاها الله إبراهيم في الدنيا. قال ابن فورك: وأمر الفاضل باتباع المفضول، لما كان سابقاً إلى قول الصواب والعمل به. وقال الزمخشري: ثم أوحينا في ثم هذه ما فيها من تعظيم منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجلال محله، والإيذان بأنّ أشرف ما أوتي يخليل الله إبراهيم عليه السلام من الكرامة، وأجل ما أوتي من النعمة اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملته، من قبل أنها على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله عليها بها انتهى.
وأنْ تفسيرية، أو في موضع المفعول. واتباع ملته قال قتادة: في الإسلام، وعنه أيضاً: جميع ملته إلا ما أمر بتركه. وعن عمرو بن العاص: مناسك الحج. وقال القرطبي: الصحيح عقائد الشرع دون الفروع لقوله: {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} وقيل: في التبري من الأوثان. وقال قوم كان على شريعة ابراهيم، وليس له شرع ينفرد به، وإنما المقصود من بعثته إحياء شرع ابراهيم عليه السلام. قال أبو عبد الله الرازي: وهذا القول ضعيف، لأنه وصف إبراهيم في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال: اتبع ملة ابراهيم، كان المراد ذلك. فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد بناء على الدلائل القطعية، وإذا كان كذلك لم يكن متابعاً له، فيمتنع حمل قوله: أن اتبع، على هذا المعنى، فوجب حمله على الشرائع التي يصح حصول المتابعة فيها.
(قلت): يحتمل أن يكون المراد متابعته في كيفية الدعوة إلى التوحيد، وهي أن يدعو إليه بطريق الرفق والسهولة، وإيراد الدلائل مرة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن انتهى. ولا يحتاج إلى هذا، لأنّ المعتقد الذي تقتضيه دلائل العقول لا يمتنع أنْ يوحي لتظافر المعقول والمنقول على اعتقاده. ألا ترى إلى قوله تعالى: {قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد} فليس اعتقاد الوحدانية بمجرد الوحي فقط، وإنما تظافر المنقول عن الله في ذلك مع دليل العقل. وكذلك هنا أخبر تعالى أنّ ابراهيم لم يكن مشركاً، وأمر الرسول باتباعه في ذلك، وإن كان انتفاء الشرك ليس مستنده مجرد الوحي، بل الدليل العقلي والدليل الشرعي تظافراً على ذلك. وقال ابن عطية: قال مكي: ولا يكون يعني حنيفاً حالاً من ابراهيم لأنه مضاف إليه، وليس كما قال لأنّ الحال قد تعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال كقولك: مررت بزيد قائماً انتهى. أما ما حكى عن مكي وتعليله امتناع ذلك بكونه مضافاً إليه، فليس على إطلاق هذا التعليل لأنه إذا كان المضاف إليه في محل رفع أو نصب، جازت الحال منه نحو: يعجبني قيام زيد مسرعاً، وشرب السويق ملتوتاً. وقال بعض النحاة: ويجوز أيضاً ذلك إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه كقوله: {ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً} أو كالجزء منه كقوله: {ملة إبراهيم حنيفاً}
وقد بينا الصحيح في ذلك فيما كتبناه على التسهيل، وعلى الألفية لابن مالك. وأما قول ابن عطية في رده على مكي بقوله: وليس كما قال، لأنّ الحال إلى آخره فقول بعيد عن قول أهل الصنعة، لأن الباء في بزيد ليست هي العاملة في قائماً، وإنما العامل في الحال مررت، والباء وإن عملت الجر في زيد فإنّ زيداً في موضع نصب بمررت، وكذلك إذا حذف حرف الجر حيث يجوز حذفه نصب الفعل ذلك الاسم الذي كان مجروراً بالحرف. ولما أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم باتباع ملة ابراهيم عليه السلام، وكان الرسول قد اختار يوم الجمعة، فدل ذلك على أنه كان في شرع ابراهيم، بين أنّ يوم السبت لم يكن تعظيمه، واتخاذه للعبادة من شرع ابراهيم ولا دينه، والسبت مصدر، وبه سمي اليوم. وتقدم الكلام في هذا اللفظ في الأعراف. قال الزمخشري: سبتت اليهود إذا عظمت سبتها والمعنى: إنما جعل وبال السبت وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه، واختلافهم فيه: أنهم أحلوا الصيد فيه تارة وحرموه تارة، وكان الواجب عليهم أنْ يتفقوا في تحريمه على كلمة واحدة بعدما حتم الله عليهم الصبر عن الصيد فيه، والمعنى في ذكر ذلك نحو المعنى في ضرب القرية التي كفرت بأنعم الله مثلاً، وغير ما ذكر وهو الإنذار من سخط الله على العصاة والمخالفين لأوامره والخالعين ربقة طاعته.
(فإن قلت): فما معنى الحكم بينهم إذا كانوا جميعاً محلين أو محرمين؟ (قلت): معناه أنه يجازيهم جزاء اختلاف فعلهم في كونهم محلين تارة ومحرمين أخرى، ووجه آخر وهو أنّ موسى عليه السلام أمرهم أنْ يجعلوا في الأسبوع يوماً للعبادة، وأن يكون يوم الجمعة، فأبوا عليه وقالوا: نريد اليوم الذي فرغ الله فيه من خلق السموات والأرض وهو السبت، إلا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة، فهذا اختلافهم في السبت، لأنّ بعضهم اختاره، وبعضهم اختار عليه الجمعة، فأذن الله لهم في السبت، وابتلاهم بتحريم الصيد فيه، فأطاع أمر الله الراضون بالجمعة فكانوا لا يصيدون، وأعقابهم لم يصبروا عن الصيد فمسخهم الله دون أولئك. وهو يحكم بينهم يوم القيامة، فيجازي كل واحد من الفريقين بما يستوجبه. ومعنى جعل السبت: فرض عليهم تعظيمه، وترك الاصطياد فيه انتهى. وهو كلام ملفق من كلام المفسرين قبله. وقال الكرماني: عدي جعل بعلى، لأن اليوم صار عليهم لا لهم، لارتكابهم المعاصي فيه انتهى. ولهذا قدره الزمخشري: إنما جعل وبال السبت. وقال الحسن: جعل السبت لعنة عليهم بأن جعل منهم القردة. وقال ابن عباس: إن الله سبحانه قال: ذروا الأعمال في يوم الجمعة وتفرغوا فيه لعبادتي، فقالوا: نريد السبت، لأن الله تعالى فرغ فيه من خلق السموات والأرض، فهو أولى بالراحة. وقرأ أبو حيوة: جعل بفتح الجيم والعين مبنياً للفاعل، وعن ابن مسعود والأعمش: أنهما قرآ إنما أنزلنا السبت، وهي تفسير معنى لا قراءة، لأنها مخالفة لسواد المصحف المجمع عليه، ولما استفاض عن الأعمش وابن مسعود أنهما قرآ كالجماعة.


أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف، وهو أن يسمع المدعو حكمة، وهو الكلام الصواب القريب الواقع من النفس أجمل موقع. وعن ابن عباس: أنّ الحكمة القرآن، وعنه: الفقه. وقيل: النبوّة. وقيل: ما يمنع من الفساد من آيات ربك المرغبة والمرهبة. والموعظة الحسنة مواعظ القرآن عن ابن عباس، وعنه أيضاً: الأدب الجميل الذي يعرفونه. وقال ابن جرير: هي العبر المعدودة في هذه السورة. وقال ابن عيسى: الحكمة المعروفة بمراتب الأفعال والموعظة الحسنة أن تختلط الرغبة بالرهبة، والإنذار بالبشارة. وقال الزمخشري: إلى سبيل ربك الإسلام، بالحكمة بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة، والموعظة الحسنة وهي التي لا تخفى عليهم إنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها، ويجوز أن يريد القرآن أي: ادعهم بالكتاب الذي هو حكمة وموعظة حسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين من غير فظاظة ولا تعنيف. وقال ابن عطية: الموعظة الحسنة التخويف والترجئة والتلطف بالإنسان بأن تجله وتنشطه، وتجعله بصورة من قبل الفضائل ونحو هذا. وقالت فرقة: هذه الآية منسوخة بآية القتال، وقالت فرقة: هي محكمة.
وإن عاقبتم أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة وغيره في يوم أحد، ووقع ذلك في صحيح البخاري، وفي كتاب السير. وذهب النحاس إلى أنها مكية، والمعنى متصل بما قبلها اتصالاً حسناً، لأنها تتدرج الذنب من الذي يدعي، وتوعظ إلى الذي يجادل، إلى الذي يجازى على فعله، ولكن ما روى الجمهور أثبت انتهى. وذهبت فرقة منهم ابن سيرين ومجاهد: إلى أنها نزلت فيمن أصيب بظلامة أنْ لا ينال من ظالمه إذا تمكن الأمثل ظلامته لا يتعداها إلى غيرها، وسمى المجازاة على الذنب معاقبة لأجل المقابلة، والمعنى: قابلوا من صنع بكم صنيع سوء بمثله، وهو عكس: {ومكروا ومكر الله} المجاز في الثاني وفي: وإنْ عاقبتم في الأول. وقرأ ابن سيرين: وإنْ عقبتم فعقبوا بتشديد القافين أي: وإنْ قفيتم بالانتصار فقفوا بمثل ما فعل بكم. والظاهر عود الضمير إلى المصدر الدال عليه الفعل مبتدأ بالإضافة إليهم أي: لصبركم وللصابرين أي: لكم أيها المخاطبون، فوضع الصابرين موضع الضمير ثناء من الله عليهم بصبرهم على الشدائد، وبصبرهم على المعاقبة. وقيل: يعود إلى جنس الصبر، ويراد بالصابرين جنسهم، فكأنه قيل: والصبر خير للصابرين، فيندرج صبر المخاطبين في الصبر، ويندرجون هم في الصابرين. ونحوه: {فمن عفا وأصلح} {وأن تعفوا أقرب للتقوى} ولما خير المخاطبون في المعاقبة والصبر عنها عزم على الرسول صلى الله عليه وسلم في الذي هو خير وهو الصبر، فأمر هو وحده بالصبر.
ومعنى بالله: بتوفيقه وتيسيره وإرادته. والضمير في عليهم يعود على الكفار، وكذلك في يمكرون كما قال: {فلا تأس على القوم الكافرين} وقيل: يعود على القتلى الممثل بهم حمزة، ومن مثل به يوم أحد. وقرأ الجمهور: في ضيق بفتح الضاد. وقرأ ابن كثير: بكسرها، ورويت عن نافع، ولا يصح عنه، وهما مصدران كالقيل والقول عند بعض اللغويين. وقال أبو عبيدة: بفتح الضاد مخفف من ضيق أي: ولا تك في أمر ضيق كلين في لين. وقال أبو علي: الصواب أن يكون الضيق لغة في المصدر، لأنه إنْ كان مخففاً من ضيق لزم أن تقام الصفة مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف، وليس هذا موضع ذلك، والصفة إنما تقوم مقام الموصوف إذا تخصص الموصوف من نفس الصفة كما تقول: رأيت ضاحكاً، فإنما تخصص الإنسان. ولو قلت: رأيت بارداً لم يحسن، وببارد مثل سيبويه وضيق لا يخصص الموصوف. وقال ابن عباس، وابن زيد: إنّ ما في هذه الآيات من الأمر بالصبر منسوخ، ومعنى المعية هنا بالنصرة والتأييد والإعانة

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9